فصل: الجملة الثانية في مكاتبة صاحب الغرب الأوسط:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الجملة الثانية في مكاتبة صاحب الغرب الأوسط:

وهو صاحب تلمسان، وقد تقدم في المقالة الثانية في الكلام على المسالك والممالك الكلام على هذه المملكة ومن ملكها جاهلية وإسلاماً؛ وهي الآن بيد عبد الواد من زناتة من قبائل البربر- والقائم بها الآن منهم إلى حدود الثمانمائة من الهجرة هو السلطان أبو زيان، ابن السلطان أبي حمو: موسى بن يوسف، بن عبد الرحمن، بن يحيى، ابن يغمراسن، بن زيان، بن ثابت، بن محمد، بن ركدار، بن تبدوكس، بن طاع الله، بن علي، بن القاسم، بن عبد الواد.
قلت: وذكر هذه المملكة في مسالك الأبصار مضافة إلى مملكة فاس: فانضمامها حينئذ إليها في مملكة السلطان أبي الحسن المريني: صاحب فاس في زمانه، ولذلك لم يذكر لصاحبها مكاتبة في التعريف. على أني رأيت من صاحبها موسى بن يغمراسن مكاتبة إلى الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر. وسيأتي إيرادها في جملة المكاتبات الواردة إلى هذه المملكة. وذكر صاحب التثقيف أن صاحبها في زمانه في الدولة الأشرفية شعبان بن حسين أي سلطانها يومئذ أبو حفص عمر بن أبي عمران موسى، وأن المكاتبة إليه مثل المكاتبة إلى صاحب تونس المقدم ذكره على السواء. وذكر أنه كتب ذلك إليه ورأى جماعة كتاب الإنشاء يكتبونه، وكذلك رأيته في الدستور المنسوب إلى المقر العلائي بن فضل الله، ولم أظفر بصورة مكاتبة فأذكرها.

.الجملة الثالثة في المكاتبة إلى صاحب الغرب الأقصى:

وهو صاحب فاس، وتعرف مملكت ببر العدوة. وقد تقدم الكلام على مملكتها وأحوالها ومن ملكها جاهلية وإسلاماً في المقالة الثانية في الكلام على المسالك والممالك، وأنها الآن بيد بني عبد الحق من بني مرين من زناتة من قبائل البربر، وأنها الآن بيد السلطان أبي فارس عثمان، ابن السلطان أبي العباس أحمد، ابن السلطان أبي سالم إبراهيم، ابن السلطان أبي الحسن علي، ابن السلطان أبي سعيد عثمان، ابن السلطان أبي يوسف يعقوب، بن عبد الحق، بن محيو، بن أبي بكر، بن حمامة، بن محمد، بن ورصيص، بن فكوس، بن كوماط، بن مرين، بن ورتاجن، بن ماخوخ، بن وحريج، بن قاتن، بن بدر، بن نجفت، بن عبد الله، بن ورتبيص، بن المعز، بن إبراهيم، بن رجيك، بن واشين، بن بصلتن، بن شرا، بن أكيا، بن ورشيك، بن أديدت، بن جانا، وهو زناتة.
وقد ذكر في التعريف: أن السلطنة فيهم في زمانه في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون صاحب مصر كانت في السلطان أبي الحسن علي بن عثمان المقدم ذكره. ثم قال: وورث هذا السلطان ملك العزفيين بسبته، وملك بني عبد الواد بتلمسان، وأطاعه ملك الأندلس، ودان له ملك أفريقية، وعرض عليه ابنته فتزوجها، فساقها إليه سوق الأمة. ثم قال: وبنو مرين رجال الوغى وناسها، وأبطال الحرب وأحلاسها؛ وهم يفخرون بغزارة علمه وفضل تقواه. قال: وهو اليوم ملك ملوك الغرب، وموقد نار الحرب.
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في التثقيف: بعد البسملة: من السلطان الأعظم الملك الفلاني، إلى آخر الألقاب المذكورة في المكاتبة لصاحب تونس، إلى قوله ونصر جيوشه وجنوده وأعوانه. ثم يقول: تحية يفتتح بها الخطاب، ويقدم منها ما زكا وطاب؛ وتقال هنا سجعات مختصرة نحو أربع أو خمس، يخص بها الحضرة الشريفة العلية، الطاهرة الزكية، حضرة المقام العالي، السلطان، السيد، الأجل، العالم، العادل، المجاهد، المرابط، المثاغر، المؤيد، المظفر، المنصور، الأسرى، الأسنى، الزكي، الأتقى، المجاهد في الله المؤيد على أعداء الله؛ أمير المسلمين، قائد الموحدين، مجهز الغزاة والمجاهدين، مجند الجنود، عاقد البنود، مالئ صدور البراري والبحار، مزعزع أسرة الكفار، مؤيد السنة، معز الملة، شرف الملوك والسلاطين، بقية السلف الكريم، والحسب الصميم، ربيب الملك القديم، أبي فلان فلان بن فلان. ويرفع نسبه إلى عبد الحق وهو أول نسبه. ويقال في كل منهم: أمير المسلمين أبي فلان فلان؛ ثم يدعى له: نحو أعز الله أنصاره أو سلطانه أو غير ذلك من الأدعية الملوكية بدعاء مطول مفخم. ثم يقال: أما بعد حمده الله، ويخطب خطبة مختصرة. ثم يقال: أصدرت إليه، وسيرت لتعرض عليه، لتهدي إليه من السلام كذا وكذا. ثم يقال: ومما تبديه كذا وكذا.
صدر: يليق بهذه المكاتبة- تهدي إليه من السلام ما يطلع عليه نهاره المشرق من مشرقه، ويحييه به الهلال الطالع من جانبه الغربي على أفقه؛ وتصف شواٌ أقام بين جفنيه والكرى والحرب، ووداداً يملأ برسله كل بحر ويأتي بكل ضرب، وثناء يستروح بنسيمه وإن كان لا يستروح إلا بما يهب من الغرب؛ مقدمة شكراً لما يبهر من عزماته التي أعزت الدين، وغزت الملحدين؛ وحلقت على من جاورها من الكفار تحليق صقور الرجال على مسفة الغربان، وتقيم عند الشجاع عذر الجبان؛ وتبين آثارها في أعناق الأعداء وللسيوف آثار بيان؛ وإن كان فعله أكثر مما طارت به الأخبار، وطافت به مخلقات البشائر في الأقطار؛ وسار به الحجيج تعرف آثاره عرفات، وصارت تستعلم أخباره وتندب قبل زمانه ما فات.
والذي ذكره في التثقيف: أنه كان السلطان في زمانه في الدولة الأشرفية شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون عبد العزيز بن أبي الحسن علي المقدم ذكره؛ وذكر أن المكاتبة إليه في قطع النصف، وأنه يكتب تحت البسملة في الجانب الأيمن من غير بياض ما مثاله عبد الله ووليه ثم يخلى بيت العلامة؛ ثم تكتب الألقاب السلطانية في أول السطر مسامتاً للبسملة السلطان الأعظم الملك الفلاني إلى آخر الألقاب السلطانية المذكورة في المكاتبة إلى صاحب تونس، إلى قوله: ونصر جيوشه وأعوانه. ثم يقول: تخص المقام العالي، السلطان، الملك، الأجل، الكبير، المجاهد، المعاضد، المرابط، المثاغر، المكرم، المعظم، المظفر، الموقر، المؤيد، المسدد، الأسعد، الأصعد، الأرشد، الأنجد، الأوحد، الأمجد، البهي، الزكي، السني، السري، فلان، أمير المسلمين ابن أبي فلان فلان، إلى عبد الحق المريني. والدعاء بما يناسب ذلك المقام؛ ثم أما بعد حمد الله، بخطبة لطيفة، فإنا نفاوض علمه الكريم ونحو ذلك. وأكثر مخاطبته بالإخاء وتختم بالدعاء، والعلامة أخوه وتعريفه: ملك الغرب. وفي الدستور العلائي أن الطلب منه بالمستمد، ويختم باستعراض الحوائج والخدم مكملاً بالدعاء.
وهذه نسخة كتاب من الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى السلطان أبي الحسن المريني، في جواب كتاب ورد عليه منه وهي:
عبد الله ووليه، السلطان الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، مؤمن أولياء الله المؤمنين، ظل الله الممدود، وميسر السبل للوفود، حامي القبلتين بحسامه من أهل الجحود، وخادم الحرمين الشريفين متبعاً للسنة الإبراهيمة في تطهير بيت الله للطائفين والعاكفين والركع والسجود، والقائم بمصالح أشرف روضة وطيبه يعطر طيبها في الوجود؛ ولي أمير المؤمنين جمع الله به كلمة الإسلام بعد الافتراق، وقمع برعبه أهل العناد والشقاق؛ وأوزعه شكر نعم الله التي ألفت على ولائه قلوب ملوك الآفاق، وأمتعه بها منحة صيرت له الملك بالإرث والاستحقاق، وسيرت كواكب مناقبه فلها بالمغارب إضاءة وبالمشارق إشراق. ابن السلطان السعيد الشهيد الملك المنصور، سيف الدنيا والدين، سقى الله عهده عهاد الرحمة ذوات إغراق، وأبقى مجده بمحمده الذي للأمة المحمدية على تعظيمه إجماع وعلى تقديمه اتفاق؛ يخص المقام العالي، الملك الأجلالكبير، المجير، العاضد، المثاغر، المظاهر، الفائز، الحائز، المنصور، المأثور، الفاتح، الصالح، الأمكن، الأصون، الأشرف، الأعرف، الكريم، المعظم، أبا الحسن علياً أمير المسلمين، ابن السلطان السيعد، الحميد، الطاهر الفاخر، الماهد، الزاهد، الأورع، الأروع، أمير المسلمين، أبي سعيد عثمان، ابن السلطان، السعيد، الرشيد، السابق، الوامق، الجامع، الصادع، أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، ناظم مفرق الفخار، وهازم فرق الفجار، والملازم لإحياء سنة الجهاد المتروكة في الأقطار، حتى يجمع في ملكه أطراف الغرب الأقصى للاستيلاء والاستظهار، ويخضع لفتكه كل متكبر جبار، ويرصع في سلكه ما تأبى وصعب من تلك الديار، ويرفع لنسكه أعمالاً من الجهاد والاجتهاد تسر الحفظة الأبرار، يظهر فيها لبركة الاسم العلوي من نشر الهدى، وقهر العدا، أوضح الأدلة وأبين الآثار، ويؤثر سلطاننا المحمدي من علي عزمه، وحمي حزمه، بأعز الأعوان والأنصار، فتظفر دار الإسلام من قومه بمهاجرين من أبناء البلاد يقر لهم بأم القرى قرار، ويسير سواهم للبيت ذي الحجر والحجر والباب والميزاب والملتزم والجدار والأستار، بسلام مشرق الغرر، مونق الحبر، وثناء مع رياه لا يعبأ بالعبير مع نشره ولا يعتبر، ووداد مخفي الخبر، واعتداد يطول منه ألسنة الشكر عن إحصائه واستقصائه قصر، وإيراد لمفاخره التي سارت بها الأخبار والسير، واعتقاد لمآثره التي سبق عثمانها إلى إحراز مزايا الفضل وجاء عليها على الأثر.
أما بعد حمد الله الذي أمر أولياءه المؤمنين بالمعاونة والمظافرة، ونهى عباده الصالحين عن المباينة والمنافرة، ورعى لحجاج بيته حرمة القصد وكتب لهم أجر المهاجرة، ودعا إلى حرمه، من أهله من خدمه، فأجابه بالتلبية وأثابه وآجره. والشهادة له بالوحدانية التي تسعد بمصاحبة المصابرة، وتصعد إلى الدرجات الفاخرة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ذي المناقب الباهرة، والمواهب الزاخرة، والمراتب التي منها النبوة والرسالة في الدنيا والوسيلة والشفاعة في الآخرة، وعلى آله وصحبه الذين أفنى الله الشرك بصوارمهم الحاصدة وأدنى القتل بعزائمهم الحارة، صلاة إلى مظان الرضوان متواترة، ما ربحت وفود مكة البركة الوافرة، ووضحت لقاصدي الكعبة البيت الحرام أوجه القبول سافرة.
فإنه ورد- أورد الله تعالى البشرى على سمعه، وأيد اهتمامه بتأليف شمل السعد وجمعه- من جانبه المكرم ومعهده وربعه، كتاب كريم نسبه، فخيم أدبه، علي منصبه، ملي إذا أخلف السحاب بما يهبه، سري سرت إلى بيت الله وحرم رسوله القريب قربه، على يد رسوله: الشيخ الأمين الأزكى، الأروع الأتقى؛ الخطيب البليغ، المدرسن المفيد أبي إسحاق ابن الشيخ الصالح أبي زيد، عبد الرحمن بن أبي يحيى، نفع الله به، وحاجبه الكبير المختار، المرتضى، الأعز، أبي زيان عريف ابن الشيخ المرحوم أبي زكريا، أيده الله تعالى، وكاتبه الأمجد الأسعد أبي الفضل ابن الفقيه المكرم أبي عبد الله بن أبي مدين، وفقه الله تعالى وسدده، ومن معهم من الخاصة والزعماء والفرسان الماثلين في خدمة الجهة المصونة بلغها الله أربها، وقبل قربها، الواصلة بركبكم المبارك الرواح والمغدى، المعان على إكمال فرض الحج المؤدى، المرحولين بحمد العقبى كما حمد المبدا؛ فضضنا ختامه الذكي، وأفضنا في حديث شكره الزكي، وعرضنا منه بحضرتنا روضاً يانع الروض به محكي، وحضضنا نوابنا على إعانة خاصة وفده وعامتهم على قضاء النسك بذلك الحرم المكي، وتلمحنا فصوله الميمونة فإذا هي مقصورات على مثوبات محضة، ورغبات تؤدي من الحج فرضه، وهبات يعامل بها من يضاعف أجره ويوفيه قرضه، وقربات يحمد فاعلها يوم قيام الأشهاد نشره وحشره وعرضه.
فأما ما ذكره من ورود الكتابين الواصلين إلى حضرته صحبة الشيخين الأجلين أبي محمد عبد الله بن صالح، والحاج محمد بن أبي لمحان وأنه أمضى حكمهما، وأجرى رسمهما، فقد آثرنا للأجر حوزه، واخترنا بالشكر فوزه، وقصدنا بهما تجديد جلباب الوداد، وتأكيد أسباب الولاء على البعاد؛ وإلا فمع وجود إنصافه الحقوق من غاصبها تستعاد، والوثوق بنصره للمظلوم وقهره للظالم لا يختلف فيه اعتقاد؛ وقد شكرنا لكم ذلك الاحتفال، وآثرنا حمدكم في المحافل والمحال.
وأما نعته مما أشرتم غليه مما يتعين له التقديم، ويستحق توفية حقه من تكريم التكريم، وهو تجهيز ركبكم المحروس في السرى والمقام، في خدمة من يقوم مقام الوالدة المرحومة في الاحترام، سقى الله صوب الرحمة صفيحها، ورقى إلى الغرفات روحها، ومعها وجوه دولتكم الغر، وأعيان مملكتكم من سراة بني مرين الذين تبهج مرائيهم وتسر؛ وما نبهتم عليه من ارتفاع شأنهم، واجتماع فرسانهم، واستيداع أمانتنا نفائس أنفسهم وأديانهم، فقد استقبلناهم على بعد بالإكرام، وأحللناهم من القرب في أعلى مقام، وصرفنا إلى تلقائهم وجه الإقبال والاهتمام، وعرفنا حقهم أهل الإسلام، ونشرنا لهم بفنائنا الأعلام، ويسرنا لهم باعتنائنا كل مرام، وأمرنا بتسهيل طريقهم، وتوصيل البر لفريقهم، وأسدلنا الخلع على جميعهم، واحتفلنا بهم في قدومهم ومقامهم وتشييعهم، وأجزلنا لهم أقسام الإنعام في توجيههم، وكذلك يكون في رجوعهم؛ وعرضوا بين أيدينا ما أصحبتهم من الطرف والهدايا، التي لا تحملها ظهور البحار فكيف ظهور المطايا، من عقود مظمة، وبرود مسهمة، ومطارف معلمه، ولطائف بالإمكان والإتقان معلمه، وصنائع محكمة، وبدائع للأفهام مفحمة، وذخائر معظمة، وضرائر للشموس في الكون والسمة، وبواتر تفرق بين الهام والأجسام والهامة ملحمة، وأخاير بمقدار مهديها في الجلال مفهمة، وخيول مسومة بالأهلة مسرجة وبالنجوم ملجمة، معودة نزال الأبطال معلمة، ذوات صدور مبقورة وأكفال مسلمة، تسحب من الحرير أذيالاً، وتصحب من الوشي سربالا، وتميس بحللها وحلاها عجباً واختيالا، ويقيس مشبهها سرعتها بالبرق فلا يتغالى، عاتيات الأجسام، عاليات كالآكام، لفحولها صهيل يذعر الأسود، ولسنابكها وقع يفطر الجلمود، أتعبت الرواض، وركبت منها صهوة كل بحر سابح حيث لجج الموت تخاض؛ وقرنت مرابطها بحماية جواهر النفوس من الأعراض، وجنيبة تجر من ذيوبها كل فضاض؛ وحسبت لاختلاف شياتها كأنها قطع الرياض: من شهب كأنما ارتدت الأقاح، أو غدت رافلة في حلل الإصباح؛ ودهم نفضت عليها الليالي صبغها فلا براح، وربما أغفلت من ذلك غرر وأوضاح؛ وكمت كأنها فتح صلب البطاح، تطير إلى الظفر بجناح؛ وحمر كأنها خلقت للنجاح، وأطلقت أعنتها فقالت ألسنة أسنتها للطرائد: لا براح؛ وخضر كأنها البزاة الموشاة الوشاح، أو مشيب في الشباب قد لاح؛ وشقر تكبو في طلبها الرياح، وتخبو نار البرق إذا أمسى بسنا سنابكها اقتداح.
ووراءها البغال، التي تحمل الأثقال، ولا تزل في الأوحال بحال؛ وعليها الزناريات الموشعة، وحليها الجلال الملمعة؛ وهي تمشي رويداً، وتبدي قوة وأيداً؛ كأن قلامتها قناه عيداً؟ وهي وافرة الأمداد، فاخرة على الجياد، باهرة العدد متكاثرة الأعداد، راسخات القوائم كأنها أطواد، شامخات الرؤوس حاليات الأجياد، باذخات الأكفال غلاظ شداد، وسارت لها إلى رحابنا انقياد، وصارت من محل إسعاد إلى مواطن إصعاد؛ فتقبلنا أجناسها وأنواعها، وتأملان غرائبها وإبداعها، وجعلنا يوماً أو بعض يوم في حواصلنا إيداعها؛ ثم استصفينا منها نفائس آثرنا إليها إرجاعها، وفرقنا في أوليائنا اجتماعها، وقسمنا مشاعها، وغنمنا لما أفاء الله صفاياها ومرباعها؛ فتوالت لكل ولي منها منح، وسارت إلى كل صفي منها ملح؛ وقالت الألسنة وطالت في وصف ما عليه به فتح، فاستبان ووضح؛ وكان لأهل الإيمان بنعمته أعظم هناء وأكبر فرح.
وسطرناها وركبكم المبارك قد رامت السرى نجائبهم؛ وأمت أم القرى ركائبهم؛ يسايرهم الأمن ويصاحبهم، ويظاهرهم اليمن ويواظبهم؛ فقد أعدت لهم المير في جميع المنازل، وشدت لهم الهجان البوازل، وأترعت لهم الموارد والمناهل، وأمرعت لهم بالميرة القفار والمراحل، ووكلت بهم الحفظة في المخاوف ونصبت لهم الأدلة في المجاهل، وجرد معهم الفرسان، وجدد لهم الإحسان، وأكد لهم حقان حق مرسلهم وحق الإيمان، وقلد درك حياطتهم أمراء العربان، وشوهد من تعظيمنا لهم ما يحسدهم عليه ملوك الزمان بكل مكان؛ وكتبنا على أيديهم إلى أمراء الأشراف بالنهوض في خدمتهم والوقوف، وأن يحيط بهم كل مقدم طائفة ويطوف، يتسلمهم زعيم من زعيم، إلى أن تحط رحالهم بالحطيم، ويحل كل منهم بالمقام ويقيم، وتكمل مناسكهم بشهود الموقف العظيم.
وكذلك كتبنا إلى أمراء المدينة المشرفة، أن تتلقى بالقبول الحسن مصحفه، وتحله بين الروضة والمنبر، وتجله فقد ربح سعي كاتبه وبر، وكتبت له بعدد حروفه أجور توفر؛ ويمكن من يرق لتلاوته في الآصال والبكر، ويهيمن على ذلك فإنه من بيت هم الملاك الأعلى وعندهم وفيهم جاءت الآيات والسور.
وعمل قليل يتم حجهم واعتمارهم، ويوم طيبة الطيبة العاطرة زوارهم؛ فيكرم جوارهم ويعظم فخارهم، وتنعم بإشراق تلك الأنوار بصائرهم وأبصارهم، وتفوح أرواح نجد من ثيابهم، وتلوح أنوار القبول على شيبهم وشبابهم؛ ثم يعودون إلينا فنعيد لهم الصلات، ونفيد كلاً منهم ديم النعم المرسلات؛ ثم يصدرون إن شاء الله إليكم ركائبهم بالمنائح مثقلات، ومطالبهم بالمناجح مكملات؛ ويظفرون من الله في الدارين بقسم النعم المجزلات حتى يلقوا برحابكم عصا التسيار، ويصونوا حر وجوههم بالصبر على حر الهجير من لفح النار، ويدخروا بما أنفقوا عند الله من درهم ودينار، أجراً جماً، وما عند الله خير للأبرار، والله تعالى يقربه من تلك المواطن، ويدنيه منها بالظاهر وإن كان يسري إليها بالباطن؛ ويسهل له ذلل الحرم، وإن كان قد أعان القاطن والقادم، حتى تحل ركائبه بين المروتين وتجيز، ويكون له بذلك على ملوك الغرب تمييز، وما ذلك على الله بعزيز.
لا زالت مقبولة على المدى هداياه، مجبولة على الندى سجاياه، مدلولة على الهدى قضاياه، منصورة على العدا سراياه، مبرورة أبداً تحاياه. والسلام الأتم الذي يعبق رياه، والثناء الأعم المشرق محياه، عليكم ورحمة الله وبركاته، والخير يكون، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة جواب الكتاب الوارد على الملك الناصر محمد بنقلاوون من ابن أبي الحسن علي المريني، صاحب فاس المغرب، بالبشارة بفتح بجاية، والانتصار على تلمسان.
واستفتاحه بعد البسملة بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم.
ثم المكاتبة المعهودة: من ألقاب الملكين، والدعاء. والصدر: قهر الله ببأسه من ناواه من أئمة الكفر وطغاته، ونصره على من لاواه من حزب الشيطان وحماته. ونشر أعلامه بالظفر بمن خالفه من عداة الله وعداته. وأجاره من بلوغ الوطر في سكونه وحركاته، على أجمل أوضاعه وأكمل عاداته، ويسر له بدوام سعوده فتح ما استغلق من معاقل الحائدين عن مرضاته. ولا زالت ركائب البشائر عنه تسري وإليه من تلقائينا تسير، ومصير الظفر حيث يصير، ويدور الفلك المستدير، بسعده الأثيل الأثير، وينور الحلك بضوء جبينه الذي يهتدي به الضال ويلجأ إليه المستجير، وتغور أعين العدا إن عاينوا جحفله الجرار وناهدوا جيشه المبير. بتحية تحكي اللطائم عرفها الشميم، وتود الكمائم لو تفتقت عن مثل ما لها من نضارة أو تسنيم، ويود عقد الجوزاء لو انتظم في عقدها النضيد النظيم.
وكيف لا وهي تحية صادرة عن مقام شريف إلى روضة غناء تزري بالنبت العميم، واردة من محل عظيم، على محياً وسيم، منطوية على الأرض من سلامة ولملوك الإسلام من سلام سليم، وطرفة نشرها كالمسك الذي ينبغي أن يختتم به هذا الكتاب، وثناء يستفز الألباب، ويستقر في حبات قلوب الأحباب، ويستدر أخلاف الودين المتحابين في الله فلا غرو أن دخلت عليهم ملائكة النصر من كل باب. يتسابقان إلى ذلك المجد الأسنى في أسعد مضمار، وتيساوقان بحياز قصبات السبق إلى تلك العصبة المشرقة الأنوار، ويزداد فيهما بالوفود عليه طيباً، ويغدو عود الود بهما رطيباً؛ حيث الربع مريع، والمهيع منيع، والعز مجدد والقدر مطيع؛ وسحب الكرم ثرة، ورياض الفضل مخضرة، وعساكر النصر تحل نحوه من المجرة؛ حيث تستعر الحرب، ويستحر الضرب، وتشرق شموس المشرفيات لامعة......
أما بعد حمد الله مظهر دينه على كل دين، ومطهر أرجاء البسيطة من الماردين المارقين، ومجرد سيف النصر على الجاحدين الحائدين، وموهن كبد الكافرين، ومجزل أجر الصابرين، ومنجز وعد من بشرهم في كتابه المبين بقوله: بل الله مولاكم وهم خير الناصرين. الذي عصم حمى الإسلام بكل ملك قاهر، وفصم عرى الشرك بكل سلطان غدا على عدو الله وعدوه بالحق ظاهر، وقصم كل فاجر بمهابة أئمة الهدى الذين ما منهم إلا من هو للمحاسن ناظم ولقمم العدا ناثر؛ ناشر علم الإيمان بحماة الأمصار، وناصر علم الإسلام بملوك الأقطار، وجاعل كلمته العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، لا جرم أن لهم النار؛ جامع قلوب أهل الإيمان على إعلاء علم الدين الحنيف وإن بعدت بينهم شقة النوى وشط المزار.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أرسله الله رحمة للعالمين ونقمة على الكفار، ونصره بالرعب مسيرة شهر وبالملائكة الكرام في إيراد كل أمير وإصدار، وألان ببأسه صليب الصلبوت وأهان بالتنكيس عبدة الأصنام وسدنة النار، وأيده بآل وأصهار، وأصحاب وأنصار، وجنود تهون النقع المثار، وأتباع ما أظلم خطب إلا أجالوا سيوفهم فبدا نجم الظفر في سماء الإيمان وأنار، وأمة ظاهرة على من ناواها، ظافرة بمن عاداها، ما تعاقب الليل والنهار، صلاة وتسليماً يدومان بدوام العشي والإبكار.
فقد ورد علينا كتاب مختوم بالتكريم، محتوم بالتبجيل والتقديم، محتو على وصف فضل الله العميم، ونصره العظيم، ومنه الجسيم؛ فأكرمنا نزله، ونشرنا حلله، وتفهمنا تفاصيله وجمله؛ فتيمنا بوصوله، وتأملنا مخايل النصر العزيز من فصوله، ووجدناه قد اشتمل من سعادة مرسله على أنواع، ومن وصف تعداد نصرته على عون من الله ومن يعن الله فهو المنصور المطاع.
فأما ما ذكره المقام العالي من أمر الوالدة المقدس صفيحها. المغمور بالرحمة ضريحها؛ وما كانت عزمت عليه من قصد مبرور؛ وتجارة لن تبور، وأم إلى البيت الآمن والحرم المعمور، وما فاجأها من الأجل، وعاجلها من أمر الله عز وجل؛ فالمقام أجزل الله ثوابه يتحقق أن النية في الأجور أبلغ من العمل، وأنه من أجاب داعي الحمام فلا تقصير في فعله ولا خلل؛ والله نسأل أن يكتب لها ما نوته من خير، وأن يطيف روحها الزكية ببيته المعمور في جنات عدن كما أطاف أرواح الشهداء في حواصل ذلك الطير.
وكنا نود أن لو قدمت ليتلقاها منا زائد الإكرام، ويوافي مضاربها وافد الاحتفال والاهتمام، ونستجلب دعواتها الخالصة الصالحة، وتظفر هي من مشاهدة الحرم المعظم والمثوى المكرم والبيت المقدس بالصفقة الرابحة. على أنه منن ورد من تلقائكم قابلناه من جميل الوفادة بما به يليق، وتقدمنا بمعاملته بما هو به حقيق، ويسرنا له السبيل وهديناه الطريق، وأبلغناه في حرز السلامة مع ركبنا الشريف أمله من قضاء المناسك والتطواف بالبيت العتيق.
وأما ما أشار إليه من أمر من كان بتلمسان وأنه ممن لا يعرف مواقع الإحسان، وما وصفه المقام العالي من أحوال ليس الخبر فيها كالعيان، وأنه اعتدى على من يتاخمه من الملوك، وخرج عن القصد فيما اعتمده من ذلك السلوك؛ حتى أن ملك تونس أرسل إلى المقام ابنه ووزيره، وسأله أن يكون ظهيره على الحق ونصيره، وأن المقام العالي أرسل إلى ذلك الشخص منكراً اعتماده، طالباً إصلاحه لا إفساده؛ راجياً أن يكون ممن تنفعه الذكرى، ظاناً أنه ممن يأبى أن يقال له: لقد جئت شيئاً نكرا وأنه بعد ذلك تمادى على غيه، وأراد أن يذوق طعم الموت في حيه، وأبى الظالم إلا نفوراً، وذكر الملك عنه أنه قتل أباه بعد أن آتاه الله به نعمة وملكاً كبيراً. وأن المقام العالي أتاه نبأ عن أخيه المقيم بسجلماسة، وخبر صدق أوجب أن يعامل بما يليق بجميل السياسة وحريز الحراسة؛ فجند المقام له جنوداً، وعقد بنوداً، وأضرى أسوداً أوهنت كيده، وأذهبت أيده، وعاجلت صيده، وأذالت باسه، وأزالت عنه سيما الملك ونزعت لباسه. وأنه في غضون ذلك أتاه سلطان الأندلس يستصرخ به على عدو الله وعدو المؤمنين، ويستعديه على الكفرة المعتدين، وأن المقام لبى دعوته مسرعاً، وأكرم نزله ممرعاً، ووعده الجميل، وحقق له التأميل. وأن صاحب تلمسان لما غره الإمهال، وظن هذه المهام توجب للمقام بعض اشتغال، أعمل أطماعه في التجري على بعض ممالكه المحروسة ومد، وسار إلى محل هو بينهما كالحد. وأن المقام عند ذلك صرف إليه وجه العزم، وأخذ في حفظ شأنه بما لأعلام النصر من نصب وما للاعتداء من رفع وما للاهتمام من جزم. وأنه لم يقدر عليه إلا بعد أن حذره من أليم العقاب حلولاً، وتمسك فيه بقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} ولما لم ينفعه الإنذار، وأبى إلا المداومة والإصرار، أرسل إليه المقام العالي من جيشه الخضم، وعسكره الذي طالما تعضده ملائكة السماء وإلى أعداده تضم، كل باسل يقوم مقام الكتيبة، وكل مشاهد يشاهد منه في العرين كل غريبه، وكل ضرغام تعرف العدا مواقع ضربه لكنها تجهل نده أو ضريبه، فأذاقوه كأس الحمام صرفاً، ولم يبتغوا عن حماه بدون نفسه عدلاً ولا صرفاً، وإلى أن أخذوه في جماعة من بني أبيه، وشرذمة قليلة ممن كانت تخالصه في الشدائد وتوافيه، وأن المقام العالي بعد ذلك سير مطارف العدل في الرعية، وأقر أحوالهم في عدم التعرض إلى الأموال والذرية، على ما هو المسنون في قتال البغاة من الأمور الشرعية. وفهمنا جميع ما شرحه في هذا الفصل، وما أخبر به صدر النصل؛ والله تعالى يزيد ملكه رقيا، ويجزيه لقبول النعم لقيا، ويجعله دائماً كوصفه مظفراً وكاسمه عليا. وأن المقام العالي لما فرغ وجهه من هذه الوجهة، وحاز هذا الملك الذي لم يحز آباؤه كنهه، عاد إلى المهم الذي قدم فيه سلطان الأندلس لأنه أبدى ما المسلمون فيه من محاورة الأذى، ومجاورة العدا؛ وقرب المسافة بين هذين العدوين كالشجا، وفي عيونهم كالقذى. وأنه ثوى به من الطغاة من أسدل على المسلمين أردية الردى، وأنه على جانب البحر المعروف بالزقاق، وبه قطان يمنعون الإرفاد والإرفاق، ويصدون عن السبيل من قصد سلوكه من الرفاق. وأن البر أيضاً مملوء منهم بصقور صائده، وعلوج مكايده، وكفار معانده، وفجار على السوء متعاضده، والبحر مشحون بغربان طائرة بأجنحة القلوع طارده، صادرة بالموت وارده، جارية في فلك البحر كالأعلام إلا أنها بالإعلام بالخبر شاهده، تتخطف كل آم وقاصد، وتقعد لأهل الإيمان بالمراصد، وتدني الموت الأحمر، ممن ركب البحر الأخضر، وتمنع السالك، إلا أن يكون من أهل الضلال الحالك، من بني الأصفر.
وأن المقام العالي عند ذلك قام لله وغار، وأنجد جنوده في طلب الثار من أهل النار وأغار، وأنجد قاصد حرمه ببعث كرمه وأعار، وأرسل عقبان فرسانه محلقة إلى ذلك الجبل الشامخ الذرى وأطار، إلى أن أحاطت بهم جنوده إحاطة الآساد بالفرائس لا إحاطة الهالات بالأقمار، فما منهم إلا من أعمل على العدا رحا المنون وأدار، وسار وناعي البين يقدمه إلى أين سار؛ وقدم عليهم ولده الميمون النقيبة، الممنوح غربه من مواقع النصر بكل غريبة، الجاري على سنن آبائه الكرام، المظفر أنى سرى الممدوح حيث أقام. وأنه مزق جموعهم الكثيفة، وهدم معاقلهم المنيفة، واستدنى منهم القاصي، واستنزل العاصي، وأخذ بالأقدام والنواصي، وأحل العذاب والنكال، بمن يستحقه من أهل الإلحاد والمعاصي، وقرن بين الأرواح والآجال، وأذكرهم بهذا النصر أيام ابن نصر وأعاد، وأثبت لهذا الجبل حقيقة اسم المدح، واستقر في صحائف فعله المقام إلى آخر هذا المنح.
وعلمنا أيضاً ما اعتمده الطاعي المغتال لعنه الله منن الحضور بنفسه، وجمعه الملحدين من أبناء خدمته والمارقين من جنسه. وأنه أعظم هذا الأمر وأكبر، وأبدى الزفير لهذا المصاب وأظهر، وأقسم بمعبوده المصور وصليبه المكسر، أن لا يعود إلا بعد أن يظفر بما سلبه الحق إياه وتبصر؛ فأبى الله والمؤمنون أن تكون النية إلا خائبة، وقضت سعادة الإسلام أن تكون الأيام لما عقده من الطوية الردية ناكبة؛ فلما طال عليه الأمد وحان الحين، عاد صفر اليدين ولكي بخفي حنين، ناكصاً على عقبه، خاسئاً لسوء منقلبه، وأسرع إلى مقر طاغوته سرى وسيراً، ولو كان من ذوي الألقاب لتعقل في أمر قول الله تعالى: ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً. وأن المقام العالي ألزمه بعد ذلك ما كان على أهل أغرناطة له في كل عام موظفاً، ووضع عنهم إصر ما برج كالأسر مجحفاً.
وهذه عزة إسلامية جدد الله على يد المقام بذلك القطر صدورها، وسطر في صحائف حسناته أجورها، وابقى له مذخورها، وأعدها له ليوم تجد فيه كل نفس ما عملت من خير محضراً إذا شاهدت عرضها ونشرها، ومنة من الله أربت على العد، وتجاوزت الحد، ومزية لا تطمح الآمال إلى ميلها في جانبها ولا تمتد، ورتب جد يلحق بها الولد الناجم في سماء المعالي رتب الكرام من أب له وجد- والله يجعله مظفراً على العدا، منصوراً على من حاد عن سواء السبيل واعتدى، مستحقاً لمحاسن الأخبار على قرب المدة وبعد المدى.
وقد كان أخونا أمير المسلمين، وسلطان الموحدين، والدك الشهيد قدس الله سره؛ وبوأه دار النعيم وبها أقره، في كل آونة يخبرنا بمثل هذا الفتح، ويذكر لنا ما ناله من جزيل المنح؛ فهذه شنشنة نعرفها من أخزم، وسنة سلك فيها الشبل الصائد سنن ذلك الضيغم الأعظم، ونحن نحمد الله الذي أقام المقام مقام أبيه لنصرة الإسلام وأبقى، وصدق بما تنشئه من حسن افعالك وسعيد آرائك أنك أبو الحسين وأن أباك أبو سعيد حقا.
وحيث سلك المقام سنن والده الشهيد، وأتحفنا من أنبائه بكل جديد، وقص علينا أحاديث ذلك الجانب الغربي المشرق بأنواره، ونص متجدداته مفصلة حتى صرنا كأنا مشاهدون لذلك النصر ومواقع آثاره، فقضى الود أن نتحفه من أحاديث جيشنا الذي أشرفت لمعات سيوفه في الشرق الأعلى بما يشنف سمعه، ويسر معشر الإسلام وجمعه، وموطنه وربعه: ليتحقق أن نعم الله لكل من قام بتشييد هذا الدين المحمدي عامة، ومننه لديهم تامة، وألطافه بهم حافة، ومناصرته ليد سلطان الإسلام في أعناق العدا مطلقة ولأكف أهل الشرك كافة، {وأما بنعمة ربك فحدث}.
فمما نبديه لعلمه ونهديه لسعيد فهمه، أن من جملة من يحمل لأبوابنا الشريفة من ملوك الكفر القطيعة في كل عام، ويرى أن ذلك من جملة الإفضال عليه والإنعام؛ متملك سيس، والذي هو في ملته من ساكني البر كالرئيس، وبين بطارقته وطغاته كالكتد الأعظم أو كالقديس النفيس؛ وعليه مع ذلك لأبوابنا الشريفة من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة ما لا يحيد عنه ولا يحيس، ومرتب لا يقبل التنقيص ولا يسمح لخناقه بتنفيس، تحمله نوابه إلى أبوابنا الشريفة عن يد وهم صاغرون، ويقومون به على قدم العبودية وهم ضارعون.
ولما كان في العالم الماضي سوف ببعضه وأخر، ودافع عند إبانه وقصر، وسأل مراحمنا في تنقيص بعض ذلك المقرر، وأرسل ضراعاته إلى نوابنا بالممالك الشامية في هذا المعنى وكرر، وقد في نفسه المراوغة وأسر خسراً في ارتعا والله أعلم بما قدر؛ فاقتضت آراؤنا الشريفة أن نرسل إليه بعثاً يذلل قياده، وينكس صعاده، ويخرب بلاده، ويوطئ أطواده، ويوهن عناده، ويذهب فساده، ويفرق أجناده، ويمزق أنجاده، ويقلل أعداده، ويفلل جموعه، ويدكك ربوعه، ويذري على ملكه دموعه، ويدني خضوعه، ويفصل تلك الأبدان التي هي للطغيان مجموعه، فأنهضنا إليه من الأبطال كل باسل، وأنهدنا إليه منهم كل ضرغام خادر يظن الجاهل أنه متكاسل، وأشهدنا حربه كل مؤمن يرى الشهادة مغنماً، والتخلف مأثماً والتباطؤ مغرماً، والعذر في هذا المهم أمراً محرماً، ويعد الركوب إلى هذا السفر قربه، والركون إلى وطنه غربه، ويرغب فيما وعد الله به جيشه المنصور وحزبه، ويربأ بنفسه أن يكون من الخالفين حباً لها وتكريماً، ويبادر إلى ما أمر به رغبة في قوله تعالى: وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً، على صافنات جياد، ليس لها غير الطير في سرعة المرام أضداد، وعاديات عاديات على أهل العناد، وضابحات ذابحات لذوي الفساد، ومغيرات طالما أسفر صبحها عن النجاح، ومثيرات نقع يتبلج غيهبها عن تحقق النجاة وإزالة الجناح. وصواهل عراب، كم للفضل بها من كمون وللموت اقتراب، وأصائل خيل، تخيل لراكبها أنها أجرى من الرياح وأسرى من الليل، قد عقد الخير بنواصيها، وعهد النصر من أعرافها وصياصيها، وتسنم راكبوها لذروة العز من ظهورها، واحتووا على الكبير الأعلى من نصرتها على العدا وظهورها، بسيوف تبدد الأوهام، وتزيل الإيهام، وتقد الهام، وتدني الموت الزؤام، وتطهر بميامنها نجس الشرك ودنسه، وتقرع أجسادهم فتغدو كلها عيوناً ولكن بالدماء منجسه، قد تسربل كل منهم من الإيمان درعاً حصيناً، واتخذ لبسه جنة ولكن من الذهب والإستبرق ليكون لفضل الله مظهراً ولإحساننا مبيناً، واتخذ لسهام القسي ليوم اللقاء الألسن الحداد، ومد يد المظاهرة ببيض قصار وسمر صعاد.
فلما جاسوا خلال تلك الديار، وماسوا يرفلون في حلل الإيمان التي تشفي صدور قوم مؤمنين وتغيظ الكفار، لم يسلكوا شعباً إلا سلك شيطان الكفر شعباً سواه، ولا وطئوا موطئاً إلا وكل كافر يأباه؛ ولا نالوا من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح كما وعدهم الله؛ وما أتوا لهم على ضرع حافل إلا جف، ولا مروا على زرع حاقل إلا أصبح هشيماً تذروه الرياح أو حطيماً تكفيه الكف؛ ولا هشيم إلا حرقوه، ولا جمع إلا فرقوه، ولا قطيع شاء إلا قطعوه ومزقوه، ولا ضائز إلا ضنوا عليه أن يدعوه لهم أو يطلقوه، وما برحوا كذلك إلى أن نازلوا البلد المسمى بآياس، فحصل لأهله من مسماه الاشتقاق الأصغر والاشتقاق الأكبر بقطع الأمل منه واتصال الإياس؛ فناداهم من بذلك الحصن من أسارى المؤمنين.
يا رحمة الله حلي في منازلنا ** حسبي برائحة الفردوس من فيك

ويا نصر الله انشر بالظفر رايات مواجهنا ومنازلنا فطالما كنا نؤملك ونرتجيك؛ ويا خيل الله اركبي، ويا خيل الكفار اذهبي، ويا جند إبليس ارهبي، من جند الله الغالبين؛ وإن وجدت مناصاً فانفري، ويا ما للإسلام من جنود وأنصار، قاتلوا الذين يلونكم من الكفار.
وكانت موافاة عسكرنا المنصور إليهم عند الإسفار، فلم يملكوا القرار، ولا استطاعوا الفرار، ولم يجدوا ملجأ من الله إلا إليه. وقال: لا وزر وكيف به لمن يلبي الأوزار، ورأوا ما أعددنا لحصارهم من مجانيق تقد الصخور، وتدكدك القصور، وتغيض بها مياه نفوس تلك الأجساد الخبيثة فلا يجتمعان إلى يوم البعث والنشور؛ وأنا أمددنا جيوشنا بجاريات في بحر الفرات، مشحونة بالأموال والأقوات، والعدد والآلات؛ وأرفدناهم من الذهب والفضة بالقناطير المقنطرات، وأوفدنا عليهم من أنجادنا بالديار البكرية، وأطراف البلاد الشامية، جيوشاً كالسحاب المتراكم، وأطرنا عليهم عقبان اقتناص من عقبان التراكمين اعتادت صيد الأراقم، وأسر الضراغم؛ فلما تحققوا الدمار، لم يلبثوا إلا كما وصف الله تعالى حال من أهلك من القوم الفاسقين ساعة من نهار.
فعند الظهيرة حمي الوطيس، ونكص عند إعلان الأذان على عقبه إبليس؛ وشاهدوا الموت عياناً، وتحققوا الذهاب أموالاً وإخواناً وولداناً، أذعنوا إلى السلم، ونادوا الأمان الأمان يا أهل الإيمان والعلم، والكف الكف يا جند الملك الموصوف عند الشقاق بالحزم، وعند القدرة على العقاب بالحلم. وأرسل طاغيتهم الأكبر ليفون، يقسم بصليبه: إنا من القوم الذين يقومون بما عليهم من الجزية ويوفون؛ ومن الرعية الذين يطيعون أمر ملكهم الأعظم وعن حمى الإسلام يكفون؛ فعند ذلك رأى نوابنا بذلك العسكر أن تكف عنهم شقة الشقاق وتطوى، ولانت قلوبهم لتذكار قوله تعالى: وأن تعفوا أقرب للتقوى. وطالعوا علومنا بما سأله القوم من الرحمة والرأفة، وما ضرعوا إليهم فيه من الأمان والألفة، وإعطاء ما كنا رسمنا به من تسليم قلاع معدوده، وتسويغ أراض محدوده، تستقر بيد نوابنا وتقطع بالمناشير الشريفة لأهل الجهاد من أبوابنا، مع استقرار ما رسمنا به من قطيعة، وعقد الهدنة على أمور هي عندنا محببة ولديهم فظيعة.
هذا بعد أن استولت عساكرنا على قلاع لهم وحصون، ومحرز من أموالهم ومصون؛ وطلعت أعلامنا المحمدية على قلعة آياس، ونزل أهل الكفر على حكم أهل الإيمان وزال التحفظ والاحتراس، وأعلن بالأذان في ذلك الصرح، وظهرت كلمة الإيمان كما بدأت أول مرة وهذا يغني عن الشرح؛ وعلت الملة الحنيفية بذلك القطر وقام أهلها وصالوا، وغلت أيدي الكفار ولعنوا بما قالوا.
وكان جيشنا قبل ذلك أخذ قلعة تسمى بكاورا، واستنزلوا أهلها قسرا، واستزالوهم عنها ما بين قتلى وأسرى؛ وهي قلعة شامخة الذرى، فسيحة العرا، وثيقة العرا، يكاد الطرف يرجع عنها خاسئا.
ولما اتصل بأبوابنا هذا الخبر السار، وشفع لنا من نرى قبول شفاعته في إجابة ما سأله هذا الشعب من إجراء عذاب أهل الكفر إلى نار تلك الدار؛ مننا عليهم بالأمان، وقابلناهم بعد العدل بالإحسان؛ وتقدم أمرنا إلى نوابنا بكف السيف وإغماده، وإطفاء مسعر الحرب وإخماده؛ وأن يجرى المن على مألوفه منا ومعتاده، بعد تسليم تلك القلاع، وهدم الأسوار التي كان بها لأهل الكفر الامتناع، واستبقاء الرعية، واستحياء الذرية، وإجراء الهدنة المسؤولة على القواعد الشرعية؛ وعاد عسكرنا منشور الذوائب، مظفر الكتائب، مؤيد المواكب، مشحوناً بغرائب الرغائب.
وعند وصولهم إلى أبوابنا فتحنا لهم أبواب العطاء الأوفر، وبدلناهم بالتي هي أحسن وعوضناهم الذي هو أكثر؛ وأفضنا عليهم من خلع القبول ما أنساهم مشقة ذلك السرى وشقة السير، وتلا عليهم لسان الإنصاف {ولباس التقوى ذلك خير}.
وبعد ذلك ورد علينا كتاب بعض نوابنا بالأطراف من أولاد قرمان، القائمين بمشارق ممالكنا على وجه الأمن وسعة الأمان، بأنهم عند عودهم من سيس، ونصرتهم على حرب إبليس، استطردوا فأخذوا للكفر تسع قلاع، ما برحت شديدة الامتناع، لا تمتد إليها الأطماع؛ فتكمل المأخوذ في هذه السفرة وما قبلها خمس عشرة قلعة، وبدد الله شمل الكفر وفرق جمعه، وآثرنا أن نعلم المقام العالي بلمحة مما لله لدينا من النعم، ولبره من شارة يستدل بها على أثر أخلاف كالديم، ونطلعه على درة من سحاب، وغرفة من بحر عباب، وطرفة نشرها كالمسك الذي ينبغي أن يختتم بها هذا الكتاب.
ونحن نرغب إلى المقام أن يواصل بكتبه المفتتحة بالوداد، المشتملة على النصرة على أهل العناد، المشحونة بمواقع الفتح والظفر التي تتضاعف إن شاء الله وتزداد، المحتوية على الطراف من الإخلاص والتلاد، المتصل سببها بين الآباء الكرام ونجباء الأولاد، والله تعالى يجعله دائماً لثمرات النصر من الرماح يجتني، ولوجوه الفتح من الصوارم يجتلي، ويديم على الإسلام مزيد العز الذي يتجدد كل آونة من طلائع رايات محمد وبدائع آراء علي، بمنه وكرمه.
وهذه نسخة كتاب جواب إلى صاحب فاس حيث ورد كتابه بالتعرض لوقعه تمرلنك من إنشاء مؤلفه، كتب بذلك عن السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق وهو:
عبد الله ووليه السلطان الأعظم إلى آخر ألقاب سلطاننا أجرى الله تعالى الأقدار برفعة قدره، وأدار الأفلاك بتأييده ونصره، وأذل رقاب الأعداء بسطوته وقهره، وشحن الأقطار بسمعته وملأ الآفاق بذكره، يخص المقام العالي إلى آخر الألقاب: رفع الله تعالى له في ملكه الشامخ مناراً، وجعل النصر والظفر له شعاراً، وأحسن بحسن مواتاته إلا لأهل الكفر جواراً، بسلام يفوق العبير عبيقه، ويزري بفتيق المسك الداري فتيقه، ويخجل الروض المنمنم إذا تزين بالبهار خلوقه، وثناء تكل الألسنة البليغة عن وصفه، ويعجز بناة المجد الأثيل عن حسن رصفه، وتعترف الأزاهر بالقصور عن طيب أرجه ومسك عرفه؛ وشكر يوالي الورد فيه الصدر، ويحقق الخبر فيه الخبر، ويشيع في الآفاق ذكره فتتخذه السمار حديث سمر.
أما بعد حمد الله واصل أسباب المودة وحافظ نظامها، ومؤكد علائق المحبة بشدة التئامها، ورابط جأش المعاضدة باتحاد وتناسب مرامها، ومجدد مسراب القلوب بتوالي أخبارها المبهجة عن عالي مقامها. والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل نبي رعى الذمام على البعاد، وأكرم رسول قرن صدق الإخاء منه بصحة الوداد، صلاة تبلغ من رتبة الشرف منتهاها، وتنطوي الشقة البعيدة دون بلوغ مداها؛ إن ورد علينا على يد رسولكم فلان كتاب كريم طاب وروده، وتهللت بالبشر سعوده، وشهد بصدق المحبة الصادقة شهوده، وطلع من الجانب الغربي هلاله فلاحت بالمشرق بحسن التلقي سعوده؛ فقر منه برؤيته الناظر، وابتهج بموافاته الخاطر، ولاحت من جوانبه لوائح البشر فأحسن تلقيه سلطاننا الناصر.
وقابلناه من القبول بما كاد باطنه لكمال الموافاة يكون عنواناً للظاهر، وفضضنا ختامه المصون عن بديع كلام مخترع، وبنات فكر قبله لم تفترع، وفصاحة قد أحكم اللسن مبانيها، وبلاغة تناسبت ألفاظها فكانت قوابل لمعانيها، وبراعة قد أحسنت البديهة ترتيبها فجاءت وتواليها تتبع هواديها؛ وفهمنا ما أظهره من كوامن المحبة التي بلغت من القلب الشغاف، وبوارح الشوق الذي عندنا من مثله أضعاف أضعاف؛ وانتهينا إلى ما أشار إليه المقام العالي من التلويح إلى ما طرق أطراف ممالكنا الشريفة من طارق الاعتدا، وما كان من الواقعة التي كان خبرها لفظاعته يكون كالمبتدا.
ونحن نبدي لعلم المقام العالي ما يوضح له أن ما وقع من هذه القصة لم يكن عن سوء تدبير، ونورد عليه من بيان السب ما يحقق عنده أن ذلك لم يكن لعجز ولا تقصير، بل لأمر قدر في الأزل، ومقدور الله تعالى لا يدفع بالحيل.
وذلك أنه لما اتصل بمسامعنا الشريفة قصد العدو إلى جهتنا، وتجاوزه حد بلاده إلى أطراف مملكتنا؛ بادرنا الحركة إليه في عسكر لجب، وجيوش يضيق عن وسعها الفضاء الرحب؛ من كل بطل عركته الحروب، وثقفته الخطوب، وحنكته التجارب، وعجم عوده بكثرة المنازلات قراع الكتائب. قد امتطى طرفاً عربي الأصل كريم الحسب، خالص العتق صريح النسب؛ يفوق الطرف مدى باعه المديد، ويسبق حافره موقع بصره الحديد. ولبس درعاً قد أحكم سردها، وأبرم شدا، وبالغت في السبوغ فاتصفت بصفات الكرام، وضاقت عينها فمنعت شبحاً حتى ذباب السهام. ووضع على رأسه بيضة يخطف الأبضار وميض برقها، وتزلق السهام الراشقة صلابة طرقها؛ وترفعها الأبطال على الرؤوس فلا ترى أنها قامت ببعض حقها. وتقلد سيفاً يمضي على الرقاب نافذ حكمه، ويقضي بانقضاء الأجل انقضاض نجمه، لا ينبو عن ضريبة فيرد، ولا يقف حده في القطع عند حد. واعتقل رمحاً يجري الدماء سنانه بأنابيبه، ويمد إلى الفارس باعه الطويل فيأخذ بتلابيبه، وتتمسك المنايا بأسبابه فتتعلق منه بالأذيال، وتضرس الحرب بزرق أنيابه كأنها أغوال. وتنكب قوساً موعز الآجال هلال هلالها، ومورد المنون إرسال نبالها؛ ومدرك الثار رنة وترها، وموقد نار الحرب قدح شررها، قد اقترن بها سهام تسابق الريح في سرعتها، وتعاجل الموت بصرعتها، وتختطف العيون في ممرها، وتختلس النفوس من مقرها؛ تدخل هجماً كل محتجب، وتأتي الحذر من حيث لا يحتسب. وتنأول عموداً يهجم على الأضالع بأضلاعه فيدغها، ويصافح الرؤوس بكفه الملتحمة الأصابع فيدمغها؛ يقرب من الأجل كل بعيد، ويخلق من العمر كل جديد، ولا يقاومه في الدفاع بيضة وأنى تقاوم البيضة زبرة من حديد.
وتحركنا منن الديار المصرية في جيوس لا يأخذها حصر، ولا يلحقها هصر، ولا يظن بها على كثرة الأعداد كسر؛ ولم نزل نحث السير، ونسرع الحركة للقاء العدو إسراع الطير، حتى وافينا دمشق المحروسة فنزلنا بظاهرها، مستمطرين النصر في أوائل حركتنا وأواخرها؛ وانضم إلينا من عساكر الشام وعربانها، وتركمانها الزائدة على العد وعشرانها، ما لا ينقطع له مدد، ولا يدخل تحت حصر ولا عدد. وأقبل القوم في لفيف كالجراد المنتشر، وأمواج البحر التي لا تنحصر: من أجناس مختلفة، وجموع على تباين الأنواع مؤتلفة، وتراءى الجمعان في أفسح مكان، ورأى كل قبيل الآخر رأى العين وليس الخبر كالعيان، واعتد الفريقان للنزال، واحتفروا خنادق للاحتراس وتبوأنا مقاعد للقتال، ولم يبق إلا المبارزة، والتقاء الصفوف والمناجزة، إذ ورد وارد من جهتهم بطلب الصلح والموادعة، والجنوح إلى السلم وقطع المنازعة؛ فأجبناهم بالإجابة، ورأينا أن حقن الدماء من الجانبين من أتم مواقع الرأي إصابة؛ وكتبنا إليهم في ضمن الجواب:
لما أتانا منكم قاصد ** يسأل في الصلح وكف القتال

قلنا له نعم الذي قلته ** والصلح خير وأجبنا السؤال

فبينا نحن على ذلك، واقفون من المواعدة على الموادعة على ما هنالك، إذ بلغنا أن طائفة من الخونة الذين ضل سعيهم، وعاد عليهم بالوبال والله الحمد بغيهم، توجهوا إلى الديار المصرية للاستيلاء على تخت ملكنا الشريف في الغيبة، آملين ما لم يحصلوا منه إلا على الخيبة؛ فلم يسع إلا الإسراع في طلبهم، للقبض عليهم وإيقاع النكال بهم، وجازيناهم بما يجازي به الملوك من رام مرامهم، ظن العدو أن قصدنا الديار المصرية إنما كان لخوف أو فشل، فأخذ في خداع أهل البلد حتى سلموه إليه وفعل فعلته التي فعل، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
ثم لم نزل ندأب في تحصين البلاد وترويج أعمالها، وترتيب أمورها وتعديل أحوالها، حائطين أقطارها المتسعة بجيوش لا يكل حدها، ولا يعقب بالجزر مدها، ليكونوا للبلاد أسواراً، وللدولة القاهرة إن شاء الله تعالى أعواناً وأنصاراً؛ وأعاد الله المملكة إلى حالها المعروف، وترتيبها المألوف، فاستقرت بعد الاضطراب، وتوطنت بعد الاغتراب.
وفي خلال ذلك ترددت الرسل إلينا في عقد الصلح وإمضائه، ودفن ما كان بين الفريقين من المباينة وإخفائه؛ فلم يسعنا التلكؤ عن المصالحة بل سعينا سعيها؛ والله تعالى يقول: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها}. فعقدنا لهم عقد الصلح وأمضئناه؛ وأحكمنا قواعده توكلاً على الله تعالى أبرمنا، وجهزنا إليهم نسخة منه طمغت بطمغة قانهم عليها، وأعيدت إلينا بعد ذلك ليكون المرجع عند الاختلاف والعياذ بالله تعالى إليها: فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً.
والله تعالى يجنب إخاءكم الكريم مواقع الغير، ويقرن مودته الصادقة بصفاء لا يشوبه على ممر الزمان كدر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.